العرائض والملتمسات في التشريع المغربي
العرائض والملتمسات في التشريع المغربي
مقدمة
عرفت النظم السياسية على مر السنين اشكال مختلفة من الديمقراطية ، جاءت نتيجة مجموعة من الظروف و المتغيرات السياسية والاقتصادية التي فرضت اختيارها ، فبعد ما سادت الديمقراطية المباشرة لوقت طويل خاصة في العهد اليوناني ، ساهمت عوامل عديدة منها تزايد التعداد السكاني في التفكير في نمط وشكل آخر من أشكال الديمقراطية ، حيث تم تبني الديمقراطية التمثيلية كنظام يكفل للشعب اختيار منتخبين يتمتعون بالصالحية والكفاءة،
ويمارسون السلطة باسمه وبالنيابة عنه خلال مدة زمنية محددة، وبرغم مزايا التمثيل النيابي، إلا أن التجربة الواقعية و الميدانية أبانت عن عيوبه وأثبتت عجزه عن بناء نظام حكم تتاح فيه الفرصة لكل الفاعلين للمشاركة في اتخاذ القرارات المتعلقة بهم، وأظهرت قصور المؤسسات التمثيلية ومحدوديتها في عكس تطلعات واهتمامات الشعوب وتلبية حاجياتهم وتحقيق مطالبهم .
وأمام هذه الإنتقادات المتالحقة التي طالت الديمقراطية النيابية ، والتي يقتصر فيها دور المواطن بانتخاب نواب يمثلونه وينتهي دوره بمجرد إنتهاء العملية الإنتخابية ، جعل هذا الأمر الديمقراطية أمام تحدي كبير للبحث عن نمط آخر يتيح إمكانية التفاعل بين المواطن و المؤسسات المنتخبة خارج العملية الإنتخابية ، وتعزيز دوره في المشاركة وصنع القرارات السياسية وتتبع تنفيذها .
وفي هذا السياق برزت الديمقراطية التشاركية كآليات تكرس لعملية التفاعل بين المواطنين و المنتخبين ، كما تنبني على أساس الحوار وخلق نقاش عمومي وذلك في إطار تفعيل المشاركة السياسية لدى مختلف فئات المجتمع ومنظمات المجتمع المدني ، فالديمقراطية التشاركية تعتبر عملية لصنع القرار العمومي من خلال الجمع بين عناصر الديمقراطية التشاركية والنيابية ، كما تعد دعامة أساسية في حسن سير الديمقراطية والتي ترتكز على الفرد ، وتهدف إلى تدعيم
سلطة األفراد على قراراتهم المجتمعية اليومية ، كما أنها تعبر طاقات ديمقراطية كامنة في كل فرد من أفراد المجتمع ، ال يمكن أن تتمظهر في غياب تعاون بين مختلف مكونات المجتمع.
إن بروز الديمقراطية التشاركية جاء نتيجة الإنتقادات الموجهة للديمقراطية التمثيلية وعدم قدرتها على مجابهة التحوالت الإقتصادية والاجتماعية ، والتي باءت دون تحقيق حل للمشكالت التنموية ، ورغم ذلك فالديمقراطية التشاركية تتقاطع مع ميكانيزمات الديمقراطية التمثيلية أو تقصيها، ولكنها آليات مكملة ومساعدة تعمل على تقوية وتحسين وتجويد هذا النوع من الديمقراطية، وتحيين مضامينها لكي تصبح أكثر فعالية ، وتمكن من إشراك أكبر قدر ممكن من الأفراد في عملية صنع القرار العمومي .
ولاعتبارات منهجية ستقتصر هذه الرسالة على دراسة ومقاربة آليتين من آليات الديمقراطية التشاركية وهما العرائض والملتمسات، تحت عنوان ” العرائض والملتمسات في التشريع
المغربي .”
إن آليتي العرائض والملتمسات برغم من اختالفها في بعض الجوانب، إال أن أنهما يلتقيان في كونهما يجعالن من المواطنات والمواطنين ومنظمات المجتمع المدني شركاء في صنع القرارات العمومية، وفي إدارة الشؤون العامة، وفي المساهمة في النقاش العمومي الذي يهم مختلف السياسات، بل إن بعض العرائض كانت تتضمن اقتراح تشريعي أو اعتراض ، وبالتالي ال يمكن الفصل بينهما عند الحديث عن التطور التاريخي لمثل هذين المسلكين ، فقد ظهرت البوادر األولى للحق في تقديم العرائض مع النظام السياسي البريطاني منذ إعلان
الميثاق الأعظم (الماجنا كارتا) في عام 1215 ، وتعيين الملك ادوارد الأول مجموعة من
الأشخاص لتلقي العرائض وفحصها ودراستها وتوزيعها على السلطات المختصة ، تم تلتها التجربة الفرنسية التي تعتبر كذلك من أوائل التجارب على مستوى تفعيل هذه الآليات ، حيث أن هذا الحق كان حاضرا قبل الثورة في نطاق خاص ، إلا أنه بعد الثورة لعام 1787 اتخذ هذا الحق في تقديم العرائض شكال ومضمونا مختلفين عما كان عليه في السابق .
وعلى غرار التجارب المقارنة ، فإن ممارسة هذه اآلليات كانت كذلك حاضرة في المغرب منذ سنين مضت في شكل تظلمات موجه إلى السلطان من أجل إنصاف المظلومين، وقد أشار
2 إلى ذلك مشروع دستور المملكة المغربية لسنة 1908
، كما قدمت أحزاب الحركة الوطنية إلى سلطات الحماية عددا من العرائض للمطالبة بالاستقلال ، وفي ظل تعنت المستعمر وعدم
استجابته لمطالب التحرر والانعتاق، قدم حزب الاستقلال وبعض فئات المجتمع عريضة ، قدم حزب الاستقلال 3 الإستقلال تبناها السلطان بتاريخ 11 يناير 1944وفي سنة 1991
والاتحاد االشتراكي عريضة مشتركة إلى المرحوم جلالة الملك الحسن الثاني للمطالبة بإصالحات سياسية ودستورية لتصحيح الديموقراطية وإخراج البالد من الأزمة، وتعزيز العمل المشترك من أجل إقرار ديمقراطية حقة.
وتماشيا مع بعض دساتير العالم التي أقرت تفعيل البعد التشاركي على مستوى الديمقراطية التشاركية ، عمل المشرع الدستوري من خلال دستور 2011 على تبني الديمقراطية
التشاركية ، كأحد المرتكزات الأساسية التي يقوم عليها النظام الدستوري للمملكة ، وتم نقل آلية العرائض والملتمسات من المجال السياسي إلى المجال الدستوري مما ساهم في تعظيم
مكانة المواطن وإبرازها في الهندسة الدستورية ، وهو ما عبرت عنه مجموعة من مقتضيات الدستور ومنها الفصول 14 و15 و139 ، وهو ما يؤكد تطور الوثيقة الدستورية نحو
الإعتراف أكثر بمبادئ حقوق الإنسان خاصة فيما يتعلق بالتنصيص على مبدأ الديمقراطية التشاركية .
إن ممارسة هذا الحق مرتبط أساسا بقوانين تنظيمية تتضمن شروط تفصيلية تؤطر كيفية تقديمها ، سواء العرائض والملتمسات المقدمة إلى السلطات العمومية على المستوى الوطني أو العرائض المقدمة إلى الجماعات الترابية ، وبالتالي فقد صدرت مجموعة من القوانين التنظيمية تبين كيفية تنزيل هذه الحقوق ، حيث صدر القانون التنظيمي رقم 44.14 الذي تم 5 تعديله بالقانون رقم 70.21
، والمتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم
العرائض إلى السلطات العمومية على الصعيد الوطني ، والذي عرف العريضة في المادة الثانية منه بكونها” كل طلب مكتوب على دعامة ورقية أو إلكترونية ، يتضمن مطالب أو مقترحات أو توصيات، يوجهه مواطنات ومواطنون مقيمون بالمغرب أو خارجه إلى السلطات العمومية المعنية، قصد من اتخاذ التدابير التي تراه مناسبا في شأنه من إجراءات ” أما على
المستوى الترابي فقد صدرت القوانين التنظيمية الثالث للجماعات الترابية 111.14 المتعلق بالجهات، و 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم، ثم 113.14 المتعلق بالجماعات والتي حددت شروط تقديم العرائض للمجالس التداولية من أجل المطالبة بإدراج نقطة ضمن جدول أعمالها، سواء من طرف المواطنات والمواطنين وكذا الجمعيات.
أما بخصوص الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع كمبادرة تهدف إلى مساهمة المواطنات والمواطن ين في العملية التشريعية، فقد صدر القانون التنظيمي رقم 64.14
6 والذي تم تعديله بالقانون رقم 71.21، حيث يتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق.
أهمية الموضوع :
تكتسي دراسة آلية العرائض والملتمسات أهمية نظرية وعملية ، حيث تعتبر هذه الآليات من أهم مظاهر الديمقراطية التشاركية، فمن خلالها يمكن للمواطنات والمواطنين، ومنظمات المجتمع المدني التفاعل بشكل مباشر مع السلطات العمومية والمجالس المنتخبة، و اإلرتقاء بالمواطن إلى مصاف الشريك المباشر في إطار صنع القرارات وتدبير الشأن العام المحلي والوطني، وكذا في إبراز دورها وفعاليتها ومدى تحقيق البعد التشاركي المتمثل في التفاعل المباشر مع المواطنين بخصوص العرائض والملتمسات في مجال التشريع المقدمة إلى السلطات العمومية، وأيضا العرائض المقدمة إلى المجالس المنتخبة من طرف المواطنين، ومنظمات المجتمع المدني .أسباب إختيار الموضوع :تعدد أسباب إختيارنا لموضوع ” العرائض والملتمسات في التشريع المغربي ” كمجال للبحث على المستوى رسالة الماستر، إلى مجموعة من الاعتبارات والدوافع يمكن تصنيفها إلى : – أسباب ذاتية تتمثل الأسباب الذاتية في كون آلية العرائض والملتمسات تعطي أهمية كبيرة لمشاركة المواطنين والمواطنات في تدبير الشأن العام إلى جانب المؤسسات المنتخبة ، بعدما كان التدبير والتسيير رهين بتدخل بهذه الأخيرة فقط قبل دستور 2011 ، وبالتالي الأهمية هذا الموضوع ارتيئا خوض غمار البحث والإكتشاف والدراسة في ضلوعه ، رغبة منا لمحاولة تقديم بعض الخالصات و الإقتراحات المتواضعة التي قد تقدم الإضافة في هذا المجال .- أسباب موضوعية تتمثل الدوافع الموضوعية لاختيار لهذا الموضوع في :
تتمثل في أن هذه الآليات أدت إلى تقريب قنوات الواصل بين المواطنين وفعاليات المجتمع المدني مع الهيئات المنتخبة خارج العملية الإنتخابية .
محاولة معرفة الإكراهات والمعوقعات التي تحول دون ممارسة آلية العرائض والملتمسات .
ممارسة آلية العرائض والملتمسات في العديد من النظم الديمقراطية ، ومنها المغرب التي تسعى إلى الانفتاح على مطالب المواطنين والمواطنات ومنظمات المجتمع المدني. إشكالية الموضوع : تعتبر آلية العرائض والملتمسات في مجال التشريع من أهم مظاهر الديمقراطية التشاركية ، فالأكيد أن ممارسة الديمقراطية اليوم أصبح رهين بتدخل المواطن بمشاركة في تدبير الشأن العام وإذا المغرب من خلال دستور 2011 عمل على تكريس الديمقراطية التشاركية عبر آليتي العرائض والملتمسات ، كخطوة مهمة نحو إشراك المواطنين والمجتمع المدني في صنع القرارات العمومية ، وبالتالي يمكن مقاربة هذا الموضوع وفق الإشكالية الرئيسية التالية :إلى أي حد استطاع المشرع المغربي من خلال القوانين المؤطرة آلليتي العرئض والملتمسات تجويد هذه اآلليات وتوفير المناخ القانوني الملائم لتجاوز الإكراهات المحاطة بها وتمكين المواطنين والفاعلين المدنيين من المساهمة والانخراط الفعال في تدبير الشأن العام ؟وتتفرع هذه الإشكالية الرئيسية إلى مجموعة من الأسئلة الفرعية ، ويمكن إجمالها فيما يلي : – ما هي األسس النظرية للحق في تقديم العرائض والملتمسات في مجال التشريع ؟.
– كيف أطر المشرع المغربي الحق في تقديم العرائض و الملتمسات في مجال التشريع؟
– وما هو واقع ممارسة الحق في تقديم العرائض والملتمسات في مجال التشريع ؟
– أي آفاق لتجويد ممارسة آليات العرائض والملتمسات في مجال التشريع ؟
فرضيات الموضوع : إن الإجابة عن الإشكالية الرئيسية وأسئلتها الفرعية مرتبط بتقديم جواب مسبق افتراضي لها ، ويمكن صياغة مجموعة من الفرضيات التي ستساعد على رسم المحاور التحليلية للبحث واختبار مدى صحتها ومن تم قبولها كمطنق أساسي لتقييم تحقيق أهداف البحث ، وعليه سنتفرض أن :
– أن تتسع نسب مشاركة المواطنين في المغرب بعد التنزيل الجيد للحق في تقديم العرائض والملتمسات ، خصوصا بعد التعديل الأخير للقوانين التنظيمة المنظمة لها؛- أن الدراسة والتحليل لكل الجوانب المتعلقة بآليتي العرائض والملتمسات في مجال التشريع ستمكننا من الوقوف على المستوى الحقيقي لتفعيل العرائض والملتمسات بالمغرب؛
صعوبات البحث : إن البحث في موضوع العرائض والملتمسات في التشريع المغربي ، يظل محفوفا بالعديد من الصعوبات التي تعتري دراسة البحث من كل جوانبه وتحقيق الأهداف المسطرة ، وعموما يمكن إجمال أهم الصعوبات فيما يلي :
– قلة المراجع المختصة في الموضوع ، وخصوصا تلك المتعلقة بآلية الملتمسات؛
قلة المراجع التي تهم التعديالت األخيرة للقوانين التنظيمية آللية العرائض والملتمسات؛
- عدم إيجاد بعض اإلحصاءات المتعلقة بآلية العرائض والملتمسات على المستوى
الترابي في الفترة الممتدة بين 2019 و2024؛
مناهج البحث المعتمدة :
إن دراسة هذا الموضوع تقتضي اإلستعانة بمجموعة من المناهج وهي كالتالي : - المنهج التحليلي الوصفي : استخدام على مستويات البحث كلها ، لمقاربة وتفكيك كل
ما يتعلق بالموضوع من نصوص تشريعية ، باإلضافة إلى تحليل بعض األرقام
اإلحصائية للعرائض والملتمسات المقدمة للسلطات العمومية الوطنية والترابية . - المنهج التاريخي : اعتماد هذا المنهج الستحضار السياق التاريخي لتبلور ونشوء كل
من الحق في تقديم العريضة والملتمسات ، وأهم التطورات التي عرفتها هذه اآلليات
الديمقراطية . - المنهج اإلحصائي : ثم اإلعتماد على هذا المنهج إلستخدام بعض الجداول المرتبطة
بآليتي العرائض والملتمسات التشريعية ، حيث تتضمن أرقاما ومعدالت ونسب مئوية.
خطة البحث :
بناءا على اإلشكالية الرئيسية للبحث ارتئينا دراسة هذا الموضوع وفق التصميم اآلتي :
الفصل األول : اإلطار النظري والقانوني للعرائض والملتمسات
الفصل الثاني : العرائض والملتمسات : الواقع واآلفاق