المجتمع المدني والتشريع الجنائي بقلم عياشي هشام طالب باحث بسلك ماستر قانون المنازعات
المجتمع المدني والتشريع الجنائي بقلم عياشي هشام طالب باحث بسلك ماستر قانون المنازعات
تقديم :
تم إصدار القانون الجنائي سنة 1962[1]، أي منذ زهاء ستين سنة، عرف المجتمع المغربي خلالها تطورا عميقا على جميع المستويات وفي جميع مناحي الحياة، وتميزت، في ذات الوقت، بتعبير المغاربة عن تعطشهم وتوقهم المتزايدين للتمتع بالحريات والحقوق. وبالفعل، ترسخ تشبث البلاد بحقوق الإنسان في كونيتها وشموليتها وتقوى انخراطها في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، كلما ازدادت المطالبات المتعلقة بالحقوق والحريات حدة ووضحا، وتزايدت الحاجة إلى تغيير القوانين، خاصة تلك المرتبطة بالحقوق والحريات، بما يجعلها مشبعة بروح العدل والإنصاف وقيم حقوق الإنسان وضمانات الحرية والكرامة.
ويأتي التشريع الجنائي، بشقيه الموضوعي (مجموعة القانون الجنائي) والشكلي (قانون المسطرة الجنائية) على رأس القوانين الوثيقة الصلة بالحقوق والحريات، مما يجعل مراجعته ضرورة ملحة وحاجة ملموسة.
خاصة أمام الثورة القانونية والحقوقية التي لحقت التعديل الدستوري لسنة [2]2011، والذي عززت بموجبه مجموعة من الحقوق والحريات، وبالموازاة مع ذلك ارتقى بمكانة المجتمع المدني وقام بدسترة مجموعة من المؤسسات الوطنية خاصة المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي يعتبر رابط وصل وقناة رابطة بين المجتمع المدني وعملية صنع التشريعات المرتبطة بالحقوق والحريات، كلها سياقات تحثم إعادة النظر في النصوص الجنائية في كل مرحلة حسب خصوصياتها وذلك لأجل مواكبة الدينامية الحقوقية للعالم وتطورات المجتمع المغربي الذي أصبح فيه المجتمع المدني مهتما بالقضايا الحقوقية.
ومما يبرز أهميةَ هذا القانون ومكانته كون الدستور يتضمن جزءا أساسيا من مبادئه وقواعده الأساسية ويرسم توجهاته العامة، من جهة، والحيز الهام الذي يحظى به، من جهة ثانية، ضمن النقاش العمومي حول حماية الحقوق والحريات والنهوض بها، وحول إصلاح منظومة العدالة والارتقاء بها.
وإيمانا من المشرع الدستوري بحثمية إشراك المجتمع المدني في تدبير شؤونه العامة، والمساهمة في تطوير وتجويد عمل المؤسسات الرسمية، قام بالتنصيص في دستور 2011 على مجموعة من الأليات والحريات التي ستتيح للمجتمع المدني أن يكون فاعلا بشكل غير مسبوق في عملية صياغة التشريعات خاصة التي ترتبط بحقوق وحريات هذا الأخير، ومن هذا المنطلق فالمجتمع المدني أصبح يولي للتشريع الجنائي أهمية بالغة، حيث بدأ الشارع المغربي ينادي في مناسبات عديدة وفي أكثر من مرة إلى تنزيل المبادئ الدستورية المتعلقة بالحقوق والحريات الأساسية على التشريع الجنائي.
ولا يقتصر اهتمام المجتمع المدني على النصوص الجنائية المرتبطة بالحقوق والحريات فقط، بل يساهم أيضا في تلك المرتبطة بزجر الفساد بمختلف أنواعه، حيث يناط بالمجتمع المدني مجموعة من المهام التي تدخل في إطار تخليق الحياة العامة.
ويمكن تعريف المجتمع المدني على أنه مجموعة من المنظمات الطوعية الحرة والمستقلة عن الدولة، تشغل المجال العام وتقع مابين الأسرة والدولة وتكون العضوية فيها بطريقة اختياري، خدمة ودفاعا عن المصالح العامة دون أن تسعى لتحقيق الربح المادي[3].
إقرأ أيضا : زواج القاصر بين النصوص القانونية والواقع العملي “دراسة ميدانية اقليم ميدلت نموذجا”
وتبرز أهمية موضوع المجتمع المدني والتشريع الجنائي لكون هذا الأخير بشقيه الموضوعي والشكلي، بمثابة دستور ميداني للمواطن، يرسم له حدود المباح والمجرم، ومن هذا المنطلق تبرز جدلية العلاقة بين المجتمع المدني والتشريع الجنائي.
وكذلك إرتباط القانون الجنائي بحق الدولة في احتكار ممارسة العنف المشروع[4]، ومن ثمة يتعين أن يحرص المجتمع المدني أن يكون القانون الجنائي درعا واقيا ضد الجريمة دون أية مبالغة في الزجر، قد ينجم عنها تعد على الحريات الأساسية للأفراد.
بالإضافة إلى كون التشريع الجنائي بمثابة ترسانة قانونية لردع الجرائم المتعلقة بالغدر والخيانة وجرائم الأموال، ولكون هذه الجرائم لها طابع خاص، فالمجتمع المدني يعطيها أهمية تليق بخصوصيتها.
وانطلاقا من هذه الإعتبارات فالموضوع يطرح إشكالا ملحا يتمثل في ما مدى مساهمة المجتمع المدني في التشريع الجنائي ؟
ويتفرع عن هذا الإشكال مجموعة من التساؤلات الفرعية يمكن إجمالها في:
كيف يشارك المجتمع المدني في التشريع الجنائي ؟ وأين يتقاطعان.؟
وما هو واقع هذه المشاركة وما هي أبعادها؟ وما هي أفاق تجويد تدخل المجتمع المدني في التشريع الجنائي.
ولأجل معالجة هذا الموضوع تم اعتماد المنهج التحليلي للنصوص القانونية وفق مقاربة حقوقية.
ويتعين معالجة الإشكالات التي يثيرها الموضوع وفق التقسيم التالي :
المبحث الأول: تقاطعات المجتمع المدني والتشريع الجنائي
المبحث الثاني: واقع وأفاق مشاركة المجتمع المدني في التشريع الجنائي
المبحث الأول: تقاطعات المجتمع المدني والتشريع الجنائي
لقد أبانت الديمقراطية التمثيلية عن ضعفها في خدمة والدفاع عن مصالح عامة الشعب، الأمر الذي ساهم في بروز مفهوم الديمقراطية التشاركية القائم على إشراك المواطنين في تسيير شؤونهم العامة والمساهمة في تحقيق التنمية المنشودة من خلال مجموعة من الأليات القانونية التي مكنت المجتمع المدني بمختلف أطيافه أن يكون فاعلا في إعداد البرامج والمشاريع التنموية والمساهمة في عملية صنع التشريعات كما أن طبيعة المجتمع المدني تمتاز بخصائص تأهله للقيام بأدواره التدخلية (المطلب الأول)، وسنتعرض لأبرز مظاهر تدخل المجتمع المدني في التشريع الجنائي في (المطلب الثاني).
المطلب الأول: المجتمع المدني وخصائصه
لقد جاء دستور 2011 بمجموعة من المقتضيات القانونية التي رام من خلالها المشرع الدستوري تكريس مفهوم الديمقراطية التشاركية ودسترته، كما أحال على مجموعة من القوانين التنظيمية المؤطرة لهذه الأليات (الفقرة الأولى)، وتتوقف فاعلية أدوارالمجتمع المدني على مجموعة من الخصائص اللازمة فيه (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: الإطار القانوني لأدوار المجتمع المدني
نص دستور 2011 في الفقرة الثانية من الفصل السادس على أنه ” تعمل السلطات العمومية على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية”.
وقام بالتنصيص كذلك على دور الجمعيات والمنظمات الغير الحكومية والمتمثل في مساهمة هذا الأخير في عملية صنع القرار العام[5]، بالإضافة إلى تنصيصه على ضرورة إحداث هيئات للتشاور بغية إشراك مختلف الفاعلين في ميدان إعداد السياسات العمومية[6]، كما أعطى دستور 2011 للمواطنات والمواطنين الحق في التقدم بعرائض أمام السلطات العامة[7]، والحق في المساهمة الفعالة في ميدان التشريع من خلال الحق في تقديم ملتمسات[8]، بالإضافة كذلك إلى مجموعة من المقتضيات الأخرى المنصوص عليها في التعديل الدستوري المغربي[9].
ومن خلال المقتضيات السابقة يمكن القول أن المشرع المغربي اختار من بين آليات الممارسة الديمقراطية التشاركية، مجموعة أنماط متداخلة، منها ما يمكن ممارسته على المستوى المحلي، ويتعلق الأمر أساسا بصلاحية تقديم العرائض قصد المطالبة بإدراج نقط ضمن جدول أعمال مجلس الجماعة الترابية، بالإضافة إلى الهيئات الاستشارية داخل هذه الجماعات، ومنها ما يمكن ممارسته على المستوى الوطني، ويتعلق الأمر بصلاحية تقديم ملتمسات في مجال التشريع، أو تقديم عرائض للسلطات العمومية[10].
لكن بالرغم من المبادئ المؤسسة للديمقراطية المواطنة (التشاركية) والتي جاء بها المشرع الدستوري، تقفيا لأثر التجارب المقارنة، إلا أن التنزيل الدستوري على أرض الواقع ظل رهينا بجودة ووضوح صياغة القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية[11]، والقانونين التنظيميين المتعلقين وتحديد شروط وكيفيات تقديم العرائض أمام السلطات العمومية[12]، و الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع[13]، على إعتبار أن هذه القوانين التنظيمية هي الإمتداد المادي للدستور.
وباستقراء مختلف هذه القوانين يمكن الوقوف عند مجموعة من النواقص التي تحد من تدخلات المجتمع المدني في مختلف الميادين المنصوص عليها دستوريا.
ألزم المشرع الدستوري الجماعات الترابية بإحداث آليات للحوار والتشاور، وأعطى الحق للمواطنات والمواطنين والجمعيات على حد سواء الحق في تقديم عرائض للسلطات العمومية، وقد حددت القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية من بين الشروط التي ينبغي توفرها في الجمعيات هو إلزامية توفر الجمعية على فروع قانونية في مختلف جهات المملكة، وهذا الشرط من شأنه أن يقلص من فعالية دور الجمعيات في هذا المجال.
وحول نفس الشرط أقر المجلس الدستوري سابقا في قرار رقم 966.15[14] المتعلق بمراقبة دستورية القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات، بكون البند الأخير من المادة 121 غير مطابق للدستور،لاشتراطه شرط توفر الجمعية لفروع قانونية في جهات المملكة.
إن أهم ملاحظة يتعين إبداءها هي كون الجماعات الترابية لم تتوصل إلا بعدد قليل من العرائض قصد إدراج نقطة ضمن برنامج عملها، ولعل هذا يرجع بالأساس إلى إكتفاء القوانين التنظيمية بالتنصيص على تضمين العريضة طلب إدراج نقطة ضمن جدول الأعمال. دون إمكانية اقتراح القرار و التصويت عليه، أو حتى إمكانية حضور أصحاب العريضة قصد مناقشتها ضمن أشغال اجتماع المجلس، وهو ما يجعل الطلب المرفق بالعريضة مجرد طلب شكلي، لا يحقق أي غاية فعلية باستثناء، “الضجة الإعلامية” التي عادة ما تصاحب هذه العرائض[15].
وباستقراء المراسيم التي أحالت القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية إليها والمتعلقة بتحديد شكليات وشروط تقديم العرائض المقدمة أمام السلطة المحلية، فإن هذه المراسيم قد قيدت المواطنين باحترام الشكلية المقررة بموجب هذه المراسيم، الأمر الذي من شأنه تقليص حجم الإبداع في هذه العرائض، مما يؤدي إلى تقليص فعالية دور المواطنين في الاقتراح.
وأما فيما يتعلق بآليات الإشراك على المستوى الوطني فقد أعطى دستور 2011 الحق للمواطنين في تقديم عرائض أمام السلطات العمومية، وكذلك الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع، بالإضافة إلى أن دستور 2011 خول للمواطنين الحق في مراقبة دستورية القوانين ومدى ملائمتها للدستور.
بالإضافة إلى أن دستور 2011 قام بدسترة جهاز مهم وهي المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي جاء كامتداد للمجلس الإستشاري لحقوق الإنسان، والذي تمنح فيه تمثيلية هامة للجمعيات الفاعلة في مجال الدفاع والنهوض بحقوق الإنسان[16].
الفقرة الثانية: خصائص المجتمع المدني
تتفق معظم الدراسات التي تناولت ظاهرة المجتمع المدني مع الخصائص التي حددها عالم السياسة صامويل هنغتنتون واعتمد عليها كمعايير يمكن من خلالها الحكم على مدى التطور الذي بلغه أي مجتمع مدني.
- القدرة على التكيف في مقابل الجمود:
ويقصد بهذه الخاصية قدرة المجتمع المدني على التكيف مع التطورات البيئية التي يعمل بها، إذن فكلما كانت لمؤسسة المجتمع المدني قدرة عالية على التكيف كلما كان أكثر فعالية، لأن الجمود يؤدي إلى تضائل المجتمع المدني وإلى إقبار صوته.
- الاستقلال في مقابل الخضوع والتبعية:
إن قوة المجتمع المدني ومايميزه عن غيره من باقي مؤسسات الدولة هو استقلاليته، فمؤسسات المجتمع المدني لا تكون خاضعة أو تابعة لغيرها من المؤسسات، بشكل يسهل معه السيطرة عليها وفق ما يتماشى مع رؤية وأهداف أي كان، ويمكن تحديد درجة استقلالية المجتمع المدني من خلال المؤشرات التالية[17]:
1ـ الاستقلال المالي: ويظهر ذلك من خلال تحديد مصادر تمويل هذه المؤسسات، أي هل تتلقى تمويلا من الدولة أو من جهات خارجية أخرى، أم تعتمد بصورة كاملة على التمويل الذاتي من خلال مساهمات أعضائها في شكل رسوم وتبرعات، أو من خلال بعض أنشطتها الخدماتية والإنتاجية.
2ـ الاستقلال الإداري والتنظيمي: ويشير إلى مدى استقلال المؤسسة في إدارة شؤونها الداخلية طبقا لأنظمتها الداخلية بعيدا عن تدخل الدولة، وبالتالي انخفاض درجة تبعيتها للسلطة التنفيذية.
- التعقد في مقابل الضعف التنظيمي: ويقصد به تعدد الرأسية والأفقية داخل المؤسسة، بمعنى تعدد هيئاتها التنظيمية من جانب وجود مستويات إدارية داخلية ومن جانب ثان انتشارها جغرافيا على أوسع نطاق ممكن داخل المجتمع، ومن جانب ثالث فالمؤسسة التي تكون لها أهداف عديدة، تكون أكثر قدرة على تكييف أوضاعها، وبالتالي تتنوع بدائلها لتحقيق الهدف النهائي[18].
د) التجانس في مقابل الانقسام:
ويقصد به عدم وجود صراعات داخل المؤسسة التي تؤثر لا شك على ممارساتها لنشاطاتها، فكلما كانت الانقسامات والصراعات داخل المؤسسة المدنية أثر ذلك على طريقة اشتغال هذه الأخيرة، وقلص من مردودية نشاطها.
المطلب الثاني: المجتمع المدني فاعل في التشريع الجنائي
من بين أهم المؤسسات التي تستقطب عدد كبير الفعاليات الحقوقية والتي تلعب دورا مهما في توجيه التشريع الجنائي نجد المجلس الوطني لحقوق الإنسان (الفقرة الأولى)، بالإضافة إلى الدور الحيوي الذي تلعبه وسائل الإعلام الحديثة في إيصال قضايا وانشغالات الشارع العام (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: أدوار المجلس الوطني لحقوق الإنسان
يعتبر المجلس الوطني لحقوق الإنسان مؤسسة وطنية تعددية ومستقلة، تتولى النظر في جميع القضايا المتعلقة بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريات وحمايتها، وبضمان ممارستها الكاملة والنهوض بها وبصيانة كرامة وحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، أفرادا وجماعات، وذلك في نطاق الحرص التام على احترام المرجعيات الوطنية والكونية في هذا المجال. كما يساهم المجلس في تعزيز منظومة حقوق الإنسان والعمل على حمايتها والنهوض بها وتطويرها مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء وتشجيع إعمال مبادئ وقواعد القانون الدولي الإنساني.
يتولى المجلس في نطاق صلاحياته المتعلقة بالنهوض بحقوق الإنسان، دراسة مدى ملاءمة النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل مع المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان التي صادقت عليها المملكة أو انضمت إليها، وفي ضوء الملاحظات الختامية والتوصيات الصادرة عن أجهزة الأمم المتحدة لا سيما منها آليات المعاهدات، والتوصيات التي قبلتها المملكة المغربية.
فطبقا للفقرة الثانية من المادة 25 من الظهير المحدث للمجلس الوطني لحقوق الإنسان[19] فإن المجلس يساهم في “تعزيز البناء الدميقراطي، من خلال النهوض بالحوار المجتمعي التعددي، وتطوير كافة الوسائل والآليات المناسبة لذلك”. كما يقوم المجلس الوطني لحقوق الإنسان، إضافة إلى ذلك، وطبقا للمادة 13 ببحث ودراسة “ملائمة النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل مع المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وبالقانون الدولي الإنساني، التي صادقت عليها المملكة أو انضمت إليها، وكذا على ضوء الملاحظات الختامية، والتوصيات الصادرة عن أجهزة المعاهدات الأممية الخاصة بالتقارير المقدمة لها من لدن الحكومة”
وطبقا لمقتضيات المادة 24، فإن المجلس الوطني لحقوق الإنسان، يرفع إلى النظر السامي لجلالة الملك “اقتراحات وتقارير موضوعاتية،” في كل “ما يساهم في حماية حقوق الإنسان والدفاع عنها على نحو أفضل.”
ووعيا من المجلس بالأثر البنيوي للمسطرة الجنائية على حماية حقوق المتقاضين وضمانات المحاكمة العادلة، فإن المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي يواكب، بمذكراته، مسار إنتاج القوانين التنظيمية والعادية، يولي أهمية خاصة ومشروعة للتشريع الجنائي المسطري والمادي. وهو اهتمام يجد مبرراته أيضا في متطلبات “المقاربة المرتكزة على حقوق الإنسان” وهي مقاربة تمت الإشارة إليها بشكل صريح في بيان الأسباب الموجبة للظهير المنشئ للمجلس[20].
وفي نفس الإطار فقد تقدم المجلس في إطار مناقشة قانون المسطرة الجنائية[21] لما كان مشروعا آنذاك بمجموعة من المقترحات والتوصيات ضمنها في مذكرة توجه بها إلى وزارة العدل والحريات بتاريخ 28 غشت 2014 شملت مجموعة من المقتضيات القانونية التي تضمنها المشروع آنذاك :
أولا: مقترحات حول الحراسة النظرية والاعتقال الاحتياطي: استهدف من خلالها المجلس تقوية ضمانات الوقاية من التعذيب وملائمة قواعد المسطرة الجنائية مع القانون الدولي لحقوق الإنسان على ضوء ملاحظات وتوصيات هيئات المعاهدات، حيث أوصى المجلس بمراجعة المادة 66[22] وخاصة الفقرة الثامنة منها والتي تتيح الاتصال بالمحامي بعد انتهاء نصف المدة الأصلية للحراسة النظرية معتبرا أن هذا المقتضى بمثابة تقييد لمقتضيات الفقرة الثالثة من الفصل 23[23] من الدستور، ودعا المجلس إلى تمكين كل شخص موضوع تحت الحراسة النظرية من الاستفادة فورا من مساعدة محام، كما أوصى المجلس أيضا بمراجعة المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية وخاصة الفقرتين الرابعة والخامسة منها وذلك بتقليص مدة الوضع تحت الحراسة النظرية في إطار الجرائم الإرهابية.
كما أوصى المجلس بتفعيل التدابير الإحتياطية للإعتقال الإحتياطي خاصة في إطار المادة 1ـ181 من المسودة والتي تنص على استمرار اعتقال المتهم احتياطيا خلال أجل الاستئناف المخول للنيابة العامة، وطبقا لنفس المادة إذا قدمت النيابة العامة استئنافها، يبقى المتهم فيحالة الاعتقال الاحتياطي إلى أن يبت في هذا الاستئناف ويقترح المجلس بعض التدابير البديلة المستوحاة من الدراسة المقارنة التي يقوم بها المجلس للقوانين الإجرائية الفرنسية والبلجيكية والسويسرية، (كعدم التغيب عن المنزل، أو الحرمان من سياقة جميع الناقلات، وعدم تقديم رخصة السياقة، إيداع كفالة مالية… وغيرها من التدابير)[24].
ثانيا: المقترحات المتعلقة بتقوية موقع الدفاع على مستوى بعض المساطر كالإستدعاء للحضور، والتفتيش والوسائل البديلة عن المتابعة الجنائية بغية إعادة التوازن بين النيابة العامة والدفاع طبقا لمبدأ تكافئ السلاح كشرط ضروري للمحاكمة العادلة، وهو نفس المنطق المنطبق على مقترحات المجلس التي تستهدف تكريس الحق في صدور الحكم داخل أجل مقعول (الفصل [25]120 من الدستور)، ومجموع باقي ضمانات المحاكمة العادلة كما تقدم المجلس بمجموعة من المقترحات حول تقنيات البحث والتي إستهدف من خلالها تعزيز ضمانات حقوق الدفاع وتقوية الرقابة القضائية على استعمال هذه التقنيات.
ثالثا: ورام المجلس كذلك من خلال مجموعة من المقترحات تحقيق حماية مسطرية ملائمة لبعض الفئات المهمشة كالنساء ضحايا العنف وضحايا الاتجار في البشر والأطفال في نزاع مع القانون والأشخاص في وضعية إعاقة.
وفي هذا الإطار أوصى المجلس الوطني لحقوق الإنسان بأن يتم إدراج المقتضيات التالية في مسودة المشروع:
1ـ إصدار أمر الحماية من طرف رئيس المحكمة المختصة، إذا ما رأت على ضوء الأدلة المقدمة أمامها وبعد نقاشها تواجهيا وجود أسباب جدية لإحتمال ارتكاب أعمال العنف المزعومة والخطر الذي قد تتعرض له الضحية.
2ـ التنصيص على إمكانية إصدار الأوامر التالية من طرف رئيس المحكمة:
- منع الطرف المدعى عليه من استقبال أو اللقاء مع بعض الأشخاص المحددين على وجه الخصوص من طرف رئيس المحكمة المختصة، أو ربط أي اتصال معهم مهما كان نوعه.
- توجيه الطرف المدعي نحو خلية استقبال النساء ضحايا العنف.
- تمكين الشخص المدعى من قائمة من الأشخاص المعنويين المؤهلين الذين بمقدورهم مواكبته خلال كامل فترة الأمر بالحماية (جمعيات متخصصة).[26]
إلى جانب ماسبق ذكره تقدم المجلس الوطني لحقوق الإنسان بمذكرة تضمنت مجموعة من الإقتراحات حول مقتضيات التشريع الجنائي المتعلق بالإرهاب في سياق مناقشة مشروع قانون 86.14 المتعلق بتغيير وتتميم أحكام القانون الجنائي والمسطرة الجنائية المتعلقة بمكافحة الإرهاب[27] وتأتي هذه المذكرة وغيرها من المذكرات بناء على طلبات إبداء الرأي الموجهة من طرف مجلس النواب[28].
وأبدى المجلس ملاحظات واقتراحات حول هذا القانون من خلال مقاربته بالمرجعية الدولية وبمجموعة من التشريعات الديمقراطية المقارنة، حيث لاحظ أن عبارة “أيا كان هدفها” المتضمنة في الفصل 1-1- 218 [29]، تتضمن مخاطر تتمثل في الخلط على مستوى البواعث والخصائص والأهداف بين الجرائم ذات الطبيعة الإرهابية، وبين الجرائم المرتكبة من طرف باقي المجموعات الإجرامية المنظمة.
وحماية لحقوق الطفل ولكون هذه الفئة حساسة فقد إقترح المجلس أن تدرج بين الفقرتين الرابعة والخامسة من الفصل 1ـ1ـ218 من مشروع القانون، مقتضى يكرس اعتبار تجنيد واستخدام الأطفال من طرف المجموعات الإرهابية بمثابة ظرف تشديد[30].
بالإضافة كذلك إلى توصيات ومقترحات المجلس حول تفعيل العقوبات البديلة في إطار مذكرة صادرة عن المجلس[31]، حيث إقتراح من خلالها المجلس أن يتم إدراج عقوبات وتدابير إضافية بديلة على مستوى الكتاب الأول من القانون الجنائي، واقترح المجلس مجموعة من العقوبات البديلة في هذا الصدد بهدف إغناء المنظومة الجنائية الوطنية[32].
ومن بين أهم التوصيات التي جاءت في مذكرة المجلس حول العقوبات البديلة نجد:
تنويع التدابير الوقائية للوضع تحت المراقبة القضائية المنصوص عليها في الفصلين 160 و 161 من قانون المسطرة الجنائية كبدائل عن الاعتقال الاحتياطي؛
تنويع تدابير مسطرة الصلح المنصوص عليها في الفصل 41 من قانون المسطرة الجنائية كبدائل عن المتابعة؛
تنويع تدابير الوضع تحت المراقبة القضائية في إطار مسطرة الإفراج المؤقت المنصوص عله في الفصل 178 من قانون المسطرة الجنائية؛
التنصيص على التدابير التكميلية لمسطرة الإفراج المقيد بشروط المنصوص عليه في الفصول 622 إلى 632 من قانون المسطرة الجنائية؛
التنصيص في المسطرة الجنائية وفي مدونة تحصيل الديون العمومية على تدابير بديلة بتنفيذ الإكراه البدني؛
إن المجلس الوطني لحقوق الإنسان يضطلع بدور مهم في توجيه السياسة الجنائية، وله قوة اقتراحية مهمة في ميدان التشريع الجنائي، من خلال الدراسات التي يقوم بها والتوصيات التي يتقدم بها، إلا أن فاعلية هذه التوصيات المقدمة من طرف هذه المؤسسة الوطنية تتوقف على تبنيها من طرف النواب البرلمانيين.
الفقرة الثانية: دور الوسائل الحديثة للإعلام
لقد عاشت المجتمعات المغاربية طويلا تحت وطأة نموذج لإعلام جماهيري لا متكافئ جسدته هيمنة القناة التلفزيونية الوطنية الواحدة. ثم بدأ هذا النموذج في الانحلال تدريجيا بسبب ما أتاحته التقنيات الحديثة من إمكانات وافرة لتلقي مضامين إعلامية جديدة[33].
وساهم ازدياد وسائل الاتصال الجديدة في تغيير جوهر العملية السياسية بصفة عامة، والتعبئة الاجتماعية بصفة خاصة، وصار فاعلو الحقل السياسي أكثر ميلا إلى استخدامها في إطار المهام التي يضطلعون بها، وداخل الأجندة المتحكمة في تحركاتهم: الاتحادات، الأحزاب السياسية، الحكومات[34].
هذا الاتجاه العميق مس أيضا مؤسسات المجتمع المدني التي عرفت ظهور مايعرف بالنضال الإلكتروني والذي يشير إلى استعمال تكنولوجيا الاتصال مثل الرسائل الإلكترونية والمواقع والبودكاستنغ (podcasting)، من أجل مختلف أشكال النضال، وذلك بضمان تواصل سريع بين مجموعات المواطنين، وتوزيع الرسائل إلى جمهور واسع، وجمع الأموال على شبكة الأنترنت، والضغظ وبناء مجموعات أهلية ومنظمات.
فالإعلام الجديد المتمثل في وسائل الاتصال الحديثة لاشك يأثر أيما تأثير في التوجه الإجتماعي والمشهد السياسي، كما يشكل قوة ضغط يمكن من خلالها للمجتمع المدني الإضطلاع بأدواره الطلائعية في التشريع خاصة في شقه الجنائي وذلك للإرتباط الوثيق بين الإعلام والحقوق الحريات، فالمعارك الحقوقية المطالبة بالتوسيع من مجال الحقوق والحريات لا يمكن أن تكون ذات فعالية في غياب وسائل الإعلام التي تعمل على توسيع نطاق تبني أهداف هذه النضالات الحقوقية من خلال حشد المواطنات والمواطنين لأجل الدفاع عن قضية لها ارتباط بالتشريع الجنائي، خاصة وأن العرائض والملتمسات التي يتقدم بها المواطنون في مجال التشريع يشترط فيها توفر عدد محدد من التوقيعات وهذا ما يصعب تحققه في غياب دور الإعلام في حشد القاعدة الجماهيرية.
كما أصبحنا نتحدث عن ظاهرة النشطاء الإلكترونيين، المدافعين عن قضايا حقوق الإنسان والذين يترافعون على حقوق المواطنين من خلال التسويق لقضايا ومطالب المجتمع والدفع بها لتطفو على سطح أولويات الأجهزة السياسية، وبالنظر للمجتمع المغربي سنجد العديد من المناسبات التي لعب فيها الإعلام دورا حيويا من خلال تجديده النقاش حول مجموعة من القضايا المرتبطة بالتشريع الجنائي كعقوبة الإعدام في سياق (جريمة شمهروش)، حيث تم إثارة النقاش من جديد حول جدوى إيقاف تنفيذ هذه العقوبة، كذلك دور الإعلام في تشكيل الإحساس بالخطر المجتمعي في قضايا تمس النظام العام كمطالب حركة “ماصايمينش”، وغيرها من الحركات الإجتماعية المنادية بنوع جديد من الحريات الجنسية “المثليين الجنسيين”، والتي بدأت تجد صداها في الشارع المغربي.
ويبرز تأثير الإعلام في صناعة الرأي العام وفي قدرته على الإرتقاء بقضايا محلية إلى قضايا سياسية ذات طابع عام، ويتعلق الأمر بقضية متابعة فتاتين مغربيتين من مدينة انزكان بتهمة الإخلال بالحياء العام لارتدائهما تنورتين قصيرتين وهي ما سميت لاحقا بقضية “التنورتين”[35]، حيث صاحب هذه القضية صخب إعلامي ساهم في إثارة النقاش حول موقف المشرع الجنائي من اللباس وحول مفهوم النظام العام وما دلالته الدقيقة، وهو نفس النقاش الذي أخد حيزا هاما في معرض النقاش حول مشروع القانون الجنائي لسنة 2015.
وتزداد أهمية الإعلام في إيصال صوت المواطنين حول توجه التشريع الجنائي في كل مناسبة تضع فيها الحكومة تعديلا للقانون الجنائي أمام الحكومة قصد مراجعته، فالإعلام خاصة الصحف الإلكترونية بمواكبة النقاش العمومي حول مقتضات مشاريع القوانين الجنائية والوقوف عند أهم المقتضيات المثيرة لجدل الرأي العام، حيث يوجه الإعلام كاميراته نحو الشارع المغربي لأجل الوقوف عند رأي مختلف فئات المجتمع حول النصوص الجنائية خاصة ما يتعلق بالتجريم والعقاب، وهو بذلك يكون فاعلا مساهما في النقاش المجتمعي حول قضايا النصوص الجنائية، وفي نفس الإطار قامت الجرائد الإلكترونية بالمغرب بمتابعة النقاش المجتمعي حول “عقوبة الإعدام، تجريم الإفطار في رمضان، وتجريم العلاقات الرضائية خارج إطار الزواج..”، بمناسبة مناقشة تعديل القانون الجنائي لسنة 2015.
عموما فدور وسائل الإعلام الحديثة دور فعال، فقط ينبغي أن يكون هنالك وعي من طرف المواطن ومن طرف الجهات الإعلامية بالمهام المنوطة بها في سياق دينامية الحقوق والحريات الفردية، وتطور السلوك الإجتماعي، حيث بدأت تظهر دوائر إجتماعية مصغرة تنادي برفع التجريم عن مجموعة من الأفعال التي ما عادت شرائح واسعة من المجتمع تنظر إليها بأنها أفعال جرمية بل وأصبحت تمارسها باعتياد، ومن ثم فالإبقاء على هذه النصوص المجرمة لهذه الأفعال يضع المواطن المغربي في وضع مخالف للقانون.